الارمن في العصر الاستعماري بالسودان، في أمستردام ولندن

تمتدّ جذور التاريخ الأرمني في السودان عميقاً. فقد وصل أوائل الروّاد في مطلع القرن العشرين بحثاً عن سبل كسب العيش. ثم دفعتهم إبادة عام 1915 إلى الاستقرار هناك، فتحوّل هذا العدد القليل من التجار إلى مجتمع كان موضع تقدير وترحاب من جيرانه السودانيين كما من المستعمر البريطاني. وبعد استقلال السودان، أدّت الاضطرابات السياسية المتتالية، والنزاعات، والانحدار الاقتصادي إلى محو شبه كامل لوجودهم. ومرة أخرى، فرّقتهم الحرب ــ لكن هذه المرة أصبح تراثهم ذاته مهدداً بالزوال معهم. يهدف عملنا إلى الحيلولة دون هذا المحو. من خلال البحث والتوثيق، والاستلهام وإعادة لم الشمل، يسعى مشروع التراث الأرمني السوداني إلى صون قصص استثنائية لطالما ظُنّ أنها ضائعة في الشتات وعبر الزمن.

خطوة إلى المجال المادي

قدّم المعرض الذي كان بعنوان "الحياة الأرمنية في السودان الاستعماري" لمحة نادرة عن حياة الأرمن في السودان خلال الحقبة الأنغلو-مصرية (1899–1956). أقيمت الفعالية في أمستردام، باستضافة Move Collective، في التاسع من أغسطس؛ تلتها فعالية لندن باستضافة Hamazkayin – المملكة المتحدة في السادس عشر من أغسطس.

ضمّ المعرض 32 صورة فوتوغرافية جُمعت من عائلات أرمنية سودانية، وأرشيفات مؤسساتية، ومجموعات خاصة. أشرفت على تنسيقه فاطمة صلاح، مسؤولة الأرشيف في المشروع وطالبة بجامعة الخرطوم نزحت إلى القاهرة منذ اندلاع الحرب في السودان. لقد أجبر النزاع ملايين السودانيين على النزوح، فخسر كثيرون ليس فقط أفراد عائلاتهم ومنازلهم ومصادر رزقهم، بل أيضاً صورهم. أما الهجرات الأرمنية السودانية في العقود السابقة فقد حفظت صوراً ثمينة عبر المنفى. واليوم تقف هذه الصور كشظايا من التاريخين السوداني والأرمني، وكحجر زاوية بصري لإرث الأرمن السودانيين.

الرحلة الطويلة جنوباً

رافق المعرض محاضرة ألقاها مدير المشروع، فاهي بوغوصيان، قدّم فيها لمحة عن تاريخ المجتمع الأرمني في السودان بين 1899 - 1956. بدأت المحاضرة برحلة ثلاثة من أوائل الروّاد الأرمن: بايلاغ ديرونيان، الذي كتب عن مسيرته التي استمرت خمسين يوماً إلى أم درمان عام 1899 للتجارة مع الجيش البريطاني قبل أن يستقر ويؤسس عمله؛ كيفورك جيرجيان، الذي انتقل من أرابكير إلى الإسكندرية ثم الخرطوم للعمل مع إخوة كركجيان قبل أن يؤسس عمله ويصبح القلب النابض للجمعية الخيرية للأرمن (AGBU) في السودان خلال العقدين 1910–1920؛ وأخيراً سركيس طربنيان، الذي انتقل إلى ملكال بمساعدة سركيس تشيركينيان التاجر الذي كان يعمل في كودوك المجاورة، حيث أنشأ متجراً عاماً يبيع البضائع لقبيلة الشلك. أظهر هؤلاء التجار الأوائل صلابة كبيرة، إذ عاشوا في عزلة عبر جغرافيات السودان البعيدة، وتأقلموا مع المناخات القاسية والظروف الصعبة سعياً إلى نجاح تجاري كان يُؤمَل أن يُثري وطنهم الأصلي الفقير اقتصادياً في الدولة العثمانية. غير أنّ هذا الأمل تلاشى بعد الإبادة الأرمنية: لم يعد هناك وطن للعودة إليه، فتحوّل السودان من مكان لكسب العيش إلى مكان للعيش.

الحياة الأرمنية في السودان الاستعماري

مع وصول أعداد أكبر من الأرمن بعد الإبادة، تحوّل هذا التجمع من التجار الأرمن السودانيين إلى مجتمع حقيقي. حيث استُقبل اللاجئون، سواء عبر دعوة أقارب بعيدين أو تبنّي أيتام. وإلى جانب التجارة، بدأ المجتمع يشغل أدواراً متنوعة في خرطوم كان يتحدّث بملامح التحديث البريطاني. وقد تُرجمت نجاحاتهم التجارية إلى حياة مجتمعية نابضة وكوزموبوليتية، بمدارس وكنائس ومساحات عامة. وبحلول الاستقلال عام 1956 كانوا قد أصبحوا جزءاً راسخاً من النسيج الاجتماعي السوداني. ومع ذلك، شكّلت مكانتهم أيضاً التراتبيات الاستعمارية، التي جعلت من السودان مكاناً فريداً ليكون المرء أرمنياً فيه: أكثر امتيازاً من “الأهالي” السودانيين، لكن من دون مساواة مع الحكّام البريطانيين. تنقّل الأرمن في واقع السودان الاستعماري بحثاً عن الانتماء، أولاً في المجال الخاص ثم لاحقاً في المجال العام. وكانت هذه الرحلة نحو الانتماء موضوع تنسيق فاطمة صلاح للصور الفوتوغرافية، والتي تعزّزت بعرض وثائق وصور وسجلات أخرى، إضافة إلى فيلم نادر من عام 1956 يوثّق رقصاً أرمنياً في الخرطوم خلال احتفال ذكرى الاتحاد النسائي.


إعادة الاكتشاف ولم الشمل

في أمستردام، شكّلت الفعالية أول معرض يُقام في Move Collective، وهو فضاء مجتمعي جديد للجيران والوافدين. حضرها كثير من أفراد المجتمع المحلي للمكان، إضافة إلى العديد من المهتمين بهذا الحدث الفريد.

في لندن، لم تكن الفعاليات مجرّد نقاشات في التاريخ، بل لحظة لقاء وتأمل. ولأول مرة يُخصَّص حدث بالكامل للمجتمع الأرمني السوداني. ونتيجة لذلك، التقى أصدقاء قدامى لأول مرة منذ عقود في لندن، إحدى أبرز مواطن تواجد الأرمن السودانيين في المهجر. كما حضر أفراد من الجالية السودانية الأوسع، فتفاعلوا مع جزء من تاريخ بلادهم الذي لا يذكره إلا الجيل الأكبر، وأصبح متاحاً الآن للأجيال الجديدة. وفي ظل الحرب المستمرة والأزمة الإنسانية، حملت صور التعايش على ضفاف النيل حنينًا ممزوجًا بالمرارة، ومنحت لحظة للتأمل، مغايرة للسرديات المعتادة عن الحرب والدمار. كان الجو مشبعًا بالتعلّم والاكتشاف. وغادر الحاضرون ومعهم بطاقات بريدية أُعيدت طباعتها خصيصًا لهذه الفعالية بعد أن كانت قد صُنعت أصلًا في استوديوهات تصوير أرمنية-سودانية بالخرطوم، لتصبح تذكارات تحمل نوستالجيا لفعالية كانت إبداعاً أرمنياً سودانياً خالصاً.

بالنسبة لـ سودانهاي، لم تكن هذه الفعاليات إلا البداية. فمشاركة البحث والحوار مع المجتمعات المرتبطة بالمشروع مناسبة مميزة. لكن الأهم من ذلك أن الفعالية حوّلت الذاكرة والبحث إلى إرث. ومن خلال القدرة على مشاركة هذا الإرث، يتجاوز المشروع حدود الموقع الإلكتروني أو صفحة وسائل التواصل الاجتماعي ليصبح جزءاً من تاريخ المجتمع الأرمني السوداني ــ تاريخ سنواصل اكتشافه ومشاركته.

Thanks to all those who assisted in the organising of the event including Hamazkayin London and Move Collective in Amsterdam and a special thanks to all those who attended and made the events so special. We have received multiple requests from people who were unable to attend or were not based in London or Amsterdam who want to see the exhibition and the talk. We are working on bringing the exhibitions to more locations and once this is completed we will make the exhibition and the talk available online - we appreciate your patience in the meanwhile.

Next
Next

مصر: اسكتشاف التراث الأرمني للقاهرة